
الهلالي لايحمل سيفا .. بل يحمل فكرا
الدكتور سعد الدين الهلالى أستاذ الفقه المقارن «الأزهرى» لا يحمل سيفًا، ولا يتربص بأحد حتى يحمله على رأيه أو يجبره على بيعته إمامًا للفتوى ليطارده الأوصياء على الدين، بل يحمل فكرًا كما حمله الذين من قبله، فطاردوهم وشقوا عليهم معيشتهم، منهم من مات جائعًا، ومنهم من مات مهمومًا، ومنهم من مات مذمومًا. فإذا كان هذا أمره فلننافسه فى مضمار الرأى والفكر وعلى رؤوس الأشهاد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. «تم تفصيل هذه الفتوى لصالح معاوية حتى يخرج من صراعه مع بن أبى طالب بأجر، وعلى بأجرين» ويا دار ما دخلك شر، ولا عزاء لآلاف القتلى. «فلا يحزنك قولهم يا صديقى وتربصهم بك، فلست أعظم شأنًا من الإمام النسائى» عندما ضربوه ضربًا مبرحًا موجعًا حتى بات على مشارف الموت، ولم يسعفه إلا هروبه ليلًا من دمشق إلى مكة، لأنه قدَّم فضائل بن أبى طالب فظنوا أنه ينتقص من قدر معاوية، ومات فى مكة همًّا وكمَدًا.
وليس مقامك أعلى من مقام «الطبرى»، وما فعله فيه فريق من الحنابلة، وابن جرير الطبرى إمام المفسرين وكبير مؤرخى الأمة، لا يرتقى عالم من علماء المسلمين إلى درجته وعلمه ومؤلفاته، وقد رفض مناصب القضاء مخافة الزلل، وترفع عن الدنايا، واستغنى عن نعيم الدنيا، وكان زاهدًا ورعًا، إلا أن فريقًا من الحنابلة لم يدعه وشأنه وفكره، وقد كان بينه وبين إمامهم «أبا بكر محمد بن الحافظ أبى داوود» ضغائن وأحقاد، فشن الحنابلة حملة شعواء على الإمام الطبرى، وأشاعوا أنه من الروافض «الشيعة». أما عن أزمته ومحنته معهم، فقد رفض فكرة «التجسيم»، والحنابلة ومن معهم من السلفية يؤمنون بفكرة «التجسيم»، فهم - فيما يرون - أن المقام المحمود لله، هو ذات المقام الذى يصله النبى ليجلس على العرش بجوار ربه يوم القيامة، وكتب «الطبرى» تبطل هذه العقيدة، فحاصروه فى بيته ومنعوه الطعام والشراب حتى مات مذمومًا مدحورًا، بلا طعام يسد رمقه أو ماء يطفئ ظمأه.
ولستَ يا سعد أعظم من الإمام الشافعى، الذى كلما حاول أن يرد على الإمام مالك أمرًا أو يختلف معه فى مسألة فقهية، ثار المالكية من المصريين عليه ثورة عارمة، فقد كان المذهب المالكى يتقدم على كل المذاهب حتى إن فقه مالك كان يتقدم سنة رسول الله، وقد أحرجه ذلك حين قال: «إن مالكًا بشر يصيب ويخطئ»، فيسبه المتعصبون فى سجودهم: «اللهم أمت الشافعى، فإنك إن أبقيته اندرس (اختفى) مذهب مالك»، وقام المالكية بضرب الشافعى ضربًا عنيفًا بالهراوات حتى تسبب هذا الضرب المبرح الذى أقعده إلى موته، ولو بعد حين، وإن كان البعض قد ذهب إلى موته بالبواسير مخافة غضب الحنابلة، والأرجح هو نتاج الاعتداء عليه بالهراوات.
أزمة الدكتور سعد الهلالى هى أزمة كل من يحاول أن يُجدِّد أمور الدين لتساير العصر واحتياجات الناس، ونصوص القرآن قطعية الدلالة كما يقولون.. نعم، عند صاحب النص وهو الله، إلا أن التفسير والتأويل بشرى، فى هذا يقول الإمام على: «هذا القرآن إنما هو خطٌّ مسطور بين دفتين.. لا ينطق.. إنما ينطق به الرجال»، وكذلك فإن سبب النزول حاكم أساسى فى فهم النص ومدلوله، وآيات المواريث قد نزلت وفق أحداث ووقائع محددة بذاتها. وعلى سبيل المثال، فإن المرأة فى مصر كانت ترث كالرجل تمامًا، أما فى مكة فكانت المرأة لا ترث لأنها لم تكن جزءًا من صناعة مال الغزو والاستلاب، إلا فى بعض القبائل التى كانت تعمل بالرعى والزراعة والتجارة، فكان للمرأة نصيب فى الميراث فى حدود نصف ما يرث الرجل. فلما نزل حكم الميراث فى القرآن كان انتصارًا وإنصافًا للمرأة فى حينه، وكان الحد الأدنى الذى يمكن أن يقبله الرجل، ومع ذلك فقد واجه هذا الحكم اعتراضًا من الصحابة لأنه خروج عما ألفوه واعتادوا ووافقوا عليه، وقال بعضهم: «لعله يُنسى»، وهكذا باقى الأحكام. أحكام الميراث كانت حكمًا خاصًّا يتفق مع ظروف عصره وراعى البعد الاجتماعى فى حينه، ودار مع العلة وجودًا وعدمًا، ولو كانت المرأة عند العرب فى الجاهلية ترث كالرجل ما كان هذا الحكم قد نزل على هذا النحو!!
يا دكتور سعد، ستواجه وترى من الظلم والعنت ما واجه هؤلاء: الإمام محمد عبده، والشيخ على عبد الرازق، والدكتور طه حسين، ونصر حامد أبو زيد، وفرج فودة، وأيضًا المعتزلة جميعهم، سيطاردونك كما طورد هؤلاء، ويلاحقونك كما لاحقوا هؤلاء، منهم من عُزِل من منصبه، ومنهم من فُرِّق بينه وبين زوجته، ومنهم من سُحبت منه العالمية، ومنهم من أنصفته النيابة العامة، ومنهم من قُتِل غيلة وغدرًا، جميعهم ينصفهم التاريخ اليوم وغدًا. لا نطالب سوى برفع الظلم عن هذا العالم الجليل، ونناقشه ونحاوره، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، فهو ليس أقل من معاوية.
«الدولة المدنية هى الحل».
* عن المصري اليوم..