
مصر وفلسطين: تاريخ مشترك
رأت مصر أن أزمة غزة لا يمكن أن تجد الطريق إلى الحل عن طريق الحرب، وأنه لا بُد من المفاوضات، وقدمت مصر، بحكم خبرتها الطويلة فى ملف غزة، عرضها للجميع بالوساطة لإيجاد مخرج لهذه الأزمة.
زفَّت لنا وكالات الأنباء العالمية خبر التوقيع على اتفاق المرحلة الأولى لما عُرِف إعلاميًا بخطة ترامب للسلام فى غزة وتنفس الجميع الصعداء، فأخيرًا ستتوقف هذه الحرب الضروس، حرب الإبادة، والتى راح ضحيتها عشرات الآلاف من الضحايا فى غزة بين قتيل وجريح، حتى أن الأرقام تقترب من ربع مليون ضحية فى غزة التى يصل عدد السكان بها 2.2 مليون نسمة، أى أن نسبة الضحايا تصل إلى حوالى 10% من إجمالى السكان، وهى نسبة عالية لم نر مثيلا لها فى الحروب التى تلت الحرب العالمية الثانية وحتى الآن!
ويتخوف البعض من عودة إسرائيل مرة أخرى إلى الحرب على غزة، بعد الانتهاء من المرحلة الأولى، وتسلم الرهائن الأحياء والجثامين. وربما هناك فى حوادث التاريخ من سوابق إسرائيل ما يبرر هذا التخوف، لكننا نأمل خيرًا فى توفر الضغط الدولي، الذى لم يعد يقبل أن يرى مرة أخرى صور التجويع وحملات الإبادة المنظمة التى قامت بها إسرائيل فى غزة.
الأمر الآخر أن مجرد وقف إطلاق النار، يعطى فرصة لمن تبقى من أهل غزة لالتقاط الأنفاس، ودخول المساعدات، والتجهيز لمعدات استقبال الشتاء، الذى نرجو ألا يكون صعبًا مثلما عانت غزة طيلة عامين. ويأمل العالم العربى والإسلامي، بل والعالم الحر بأسره، أن يؤدى اتفاق المرحلة الأولى، عبر نجاحه إلى الانتقال إلى مراحل أكثر تقدمًا نحو السلام الدائم، عبر حل الدولتين، هذا الحل الذى ما تزال إسرائيل ترفضه حتى الآن.
وشاهد العالم كله، وعبر الفضائيات، أن مرحلة المفاوضات الأخيرة، بل وتوقيع هذا الاتفاق، تم كل ذلك فى مدينة شرم الشيخ المصرية وعلى أرض سيناء، التى شهدت جولات سابقة من الحروب المصرية - الإسرائيلية، منذ حرب 56، وحرب 67، وصولا إلى الانتصار الكبير فى حرب 1973، والمفاوضات التى أدت فى نهاية الأمر إلى عودة سيناء كاملةً إلى حضن الوطن. من هنا فإن من اللافت للنظر احتضان شرم الشيخ لمراسم توقيع هذا الاتفاق، وأن يتم كل ذلك فى شهر أكتوبر، شهر الكرامة المصرية والعربية.
وانتبه الجميع إلى أهمية الدور المصري، ليس فقط فى إيقاف الحرب على غزة، بل فى الملف الفلسطيني، والصراع العربي-الإسرائيلي.
والحق أقول إن هذا الأمر لم يأت من فراغ، وإنما تؤكده حوادث التاريخ؛ هل أحدثكم عن الصحافة المصرية والرأى العام المصرى والاهتمام بصراع عرب فلسطين مع المنظمات اليهودية، منذ عام 1936 فصاعدًا؟ لعلنا نستحضر ذكرى بطولة «البطل أحمد عبد العزيز» الذى استقال من الجيش المصرى قبل اندلاع حرب 1948، حتى يقود مجموعات الفدائيين المصريين والعرب، فى مواجهة جنود المنظمات الصهيونية.
واستمرت مجموعات البطل أحمد عبد العزيز فى مواجهة جيش الاحتلال الإسرائيلي، أثناء الحرب، حتى استشهد أحمد عبد العزيز على تراب فلسطين.
نجيب وعبد الناصر
ربما لا يعرف البعض أن أول اثنين من رؤساء الجمهورية فى مصر، اشتركا فى حرب 1948، دفاعًا عن القضية الفلسطينية؛ إذ اشترك محمد نجيب، كضابط كبير فى الحرب، وأُصيب على أراضى فلسطين، وتم نقله للعلاج، وسرعان ما عاد إلى القتال مرة أخرى فى فلسطين. وسيصبح اللواء محمد نجيب بعد ذلك أول رئيس للجمهورية فى مصر.
كما اشترك جمال عبد الناصر فى حرب فلسطين 1948، وكان ضابطًا صغيرًا وأبلى بلاءً حسنًا فى الحرب. وتم محاصرة عبد الناصر ومجموعته، من طرف القوات الإسرائيلية فى منطقة الفالوجا شمالى غزة، واستمر عبد الناصر ومجموعته فى الفالوجا إلى ما بعد انتهاء الحرب.
ويعود جمال عبد الناصر إلى القاهرة، ليصبح ثانى رئيس للجمهورية بعد ذلك.
والأكثر أهمية أنه على الرغم من نقص السلاح لدى الجيش المصري، وأنه ببطولته استطاع أن يحافظ على غزة وما حولها، وهى المنطقة التى عُرفت بقطاع غزة.
ولم تضم مصر هذه المنطقة، بل اعتبرتها وديعة لديها حتى تقام دولة فلسطين، فترد الوديعة إلى أهلها. وقامت مصر بإدارة قطاع غزة منذ عام 1948 وحتى عام 1967، عندما وقعت حرب 5 يونيو حيث استولت إسرائيل على القطاع، ليدخل فى دوامة من المشاكل والصراعات على أيدى الاحتلال الإسرائيلي.
وطيلة فترة الإدارة المصرية لقطاع غزة 1948- 1967 تولت مصر تنظيم كل الخدمات لأهالى القطاع من تموين إلى تعليم وصحة وخلافه.
كما كان أبناء القطاع يلتحقون بالجامعات المصرية بالمجان، وحتى بعد الاحتلال الإسرائيلى كان يسمح لمن يريد من أبناء القطاع بتلقى التعليم فى الجامعات المصرية بالمجان، وتنظيم شئون إقامته فى مصر.
مصر لا تُقايض
وقبل قيام ثورة 23 يوليو 1952، وأثناء المفاوضات المصرية - الإنجليزية حول جلاء القوات البريطانية عن قاعدة قناة السويس، طمعت بريطانيا فى منطقة قطاع غزة، وكان قد أصبح تحت الإدارة المصرية منذ عام 1948.
وحاولت بريطانيا مقايضة مصر؛ حيث وافقت على جلاء القاعدة البريطانية من منطقة قناة السويس، فى مقابل انتقال القاعدة البريطانية إلى غزة. لكن الحكومة المصرية آنذاك، رفضت بشدة هذا العرض، وأعلنت أن قطاع غزة هو أرض فلسطينية، وديعة لدى الحكومة المصرية، ولا تملك مصر حرية التصرف فيه، وأنه جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين، التى تصر مصر على قيامها مستقبلا.
ويعتبر الزعيم الفلسطينى الراحل ياسر عرفات «أبو عمار» من أهم الأمثلة على عمق العلاقات المصرية-الفلسطينية، وقطاع غزة على وجه الخصوص.
فمن المعروف أن «أبو عمار» من مواطنى غزة، لكنه عاش طفولته وشبابه فى مصر، بل والتحق بكلية الهندسة جامعة القاهرة، كل ذلك قبل حرب 1948.
وتأثر أبو عمار بشدة بإقامته فى مصر، حتى أن لهجته فى الحديث حتى بعد زعامته لمنطقة التحرير الفلسطينية كانت أقرب إلى اللهجة المصرية منها إلى اللهجة الفلسطينية، وكان أبو عمار يفتخر بذلك.
وعندما تم توقيع اتفاق أوسلو 1993، وتمخض ذلك فى البداية عن الاتفاق الذى عرف آنذاك باتفاق الحكم الذاتي، والذى بدأ بالحكم الذاتى الفلسطينى فى غزة، وأريحا فى الضفة الغربية، وكان مقر السلطة الفلسطينية فى البداية فى غزة، دخل عرفات إلى غزة، بعد غيبة طويلة، عبر مصر، حيث رافقه آنذاك الرئيس المصرى الأسبق حسنى مبارك عبر معبر رفح، مباركًا لبداية السلطة الفلسطينية وانطلاقها من مصر.
الثوابت المصرية
من هنا لم يأت الموقف المصرى الأخير، أثناء حرب الإبادة الأخيرة لأهالى القطاع على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي، من فراغ، بل مُعبِّرًا عن الثوابت المصرية تجاه القضية الفلسطينية عبر عقود طويلة؛ فبدايةً رفضت مصر وبشدة كل مشاريع الاحتلال فى دفع سكان غزة جنوبًا، من أجل تهجيرهم إلى سيناء، أو أى منطقة أخرى، لأن هذا الأمر يعنى فى حقيقته أكبر تصفية للقضية، ربما منذ نكبة 1948. كما حرصت مصر دومًا على إدخال المساعدات المصرية إلى القطاع، رغم التعنت الإسرائيلي، وحرص حكومة نتنياهو المتطرفة على استخدام سلاح التجويع فى حرب غزة.
ومنذ بداية الأزمة رأت مصر أن أزمة غزة لا يمكن أن تجد الطريق إلى الحل عن طريق الحرب، وأنه لا بُد من المفاوضات، وقدمت مصر، بحكم خبرتها الطويلة فى ملف غزة، عرضها للجميع بالوساطة لإيجاد مخرج لهذه الأزمة.
وفى نهاية الأمر تثبت الوقائع صحة الموقف المصري، وأهمية الوساطة المصرية، التى كانت ذروتها فى رعاية المفاوضات الأخيرة فى شرم الشيخ، والتوقيع على اتفاق المرحلة الأولى، بل وتصبح شرم الشيخ قبلة الجميع، حتى الرئيس الأمريكى ترامب، ليتم الاحتفال بالخطوات الأولى للسلام، على أرض سيناء، أرض السلام.
* عن أخبار اليوم..